سؤال
رقم مرجعي: 439002 | قضايا طبية معاصرة |
منهج الإسلام في التعامل مع الأوبئة في ظل أزمة فيروس "كورونا" العالمية
إجابة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:
مع انتشار فيروس "كورونا" في بعض أنحاء العالم، الذي كشف عنه في الصين أواخر العام المنصرم، وواجهت صعوبات جمة في مقاومته، على الرغم مما تتمتع به من عظمة اقتصادية وصناعية، والحديث عن هذا الفيروس محاوره كثيرة، وتتوزع بين مناح عدة، ولصعوبة الإحاطة الشاملة بالحديث عن هذا الفيروس، نود التركيز على أن المسلمين أينما وجدوا يمثلون جزءاً من مجموع الناس الذين يسكنون العالم الشاسع، يشاركونهم المعاناة من الكوارث والأوبئة، لكنهم يحتفظون بمنظومة مبادئ وقيم يؤمنون بها، يفترض أن يعملوا وفقها، تفيدهم في الوقاية من فتك الأوبئة، وفي مواجهتها بجلد وصبر ورباطة جأش.
من المعروف أن الخوف والهلع يُلحقان بالناس أحياناً مزيداً من المعاناة، وهم يواجهون بعض المحن، أو يتخوفون منها، فأخذ الحيطة والحذر مطلوب، فالله تعالى أمر بهما، فقال عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (النساء 71). مما يعني أن الدعوة لهدوء الروع والصبر، تتلاقى مع الدعوة إلى الأخذ بالأسباب والوقاية من الأمراض، فمن عظمة الإسلام أنه يمتاز بالتوازن، فلا يطغى فيه جانب على آخر، وبالتالي لا يصلح أن يؤخذ مجزءاً، أو أن تجتزأ منه جوانب، وتهمش أخرى، فيبدو مشوهاً، والله جل في علاه أنكر على من يأخذون ببعض الكتاب ويتركون بعضه الآخر، فقال تعالى {...أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة 85).
والإسلام وهو يعنى بالنواحي النفسية والمعنوية للمرضى، فيقوي معنوياتهم وهم يتألمون ويعانون، فيبعد عنهم الهلع خوفاً منها، ويَعِدُ المصابين بالأوبئة الفتاكة بثواب عظيم في الآخرة، فإنه إلى جانب ذلك يُعنى بالوقاية من الأمراض الصحية وعلاجها ضمن منهج واضح، حث فيه على التداوي، فعن أبي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ، عن رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قال: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» [صحيح مسلم، كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي]، ويشجع الإسلام الناس على البحث عن التداوي، من خلال التأكيد والطمأنة بأن لكل داء دواء وشفاء، فعن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» [صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء].
وعلى صعيد الوقاية من الأوبئة، فقد كان للإسلام سبق واضح في الحث على الحجر الصحي، فعن أُسَامَة بن زَيْدٍ، يحدث سَعْدًا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا، فَقُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ سَعْدًا، وَلاَ يُنْكِرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» [صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون]، وقال عليه الصلاة والسلام: «لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» [صحيح البخاري، كتاب الطب، باب لا هامة]، ومع ما تقدم من حديث عن الأوبئة الفتاكة، من ناحية الوقاية من الإصابة بها، وحصرها في أضيق نطاق، والسعي إلى المعالجة والتداوي وطلب الشفاء منها، ومواجهتها بجلد وصبر ورباطة جأش، دون الوقوع في إشكالات الهلع والفزع.
والحقيقة الدامغة التي ينبغي أن لا تغيب عن بال الخلق، في أوساط الأوبئة المنتشرة أو غيرها، أن قدر الله لا مفر منه، وهو حق لازم، أرشدنا إلى الإيمان بهذه العقيدة القرآن الكريم في العديد من آياته الكريمة، التي منها، قوله جل في علاه { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (التوبة 51). وفي هذا المقام يجدر التذكير بالموت، الذي هو حق لازم، كل ذائقه، بمرض فتاك أو غيره، مصداقاً لقوله عز وجل {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء 35)، ويقول الله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (العنكبوت 57).
ومن هديه صلى الله عليه وسلم، أن نستعيذ بالله من الأمراض الفتاكة، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ» [سنن أبي داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستعاذة، وصححه الألباني].
وقانا الله الشر والأشرار، وصرف عنا الأوبئة، ما عرفنا منها وما لم نعرف، وإن ابتلينا بشيء منها، فنرجوه سبحانه أن يهدينا لاتباع خير السبل، وأنجع الوسائل، للشفاء منها، والصبر عليها، وتحصيل الأجر والثواب بسببها.
والله أعلى وأعلم