ادعم فتوى، تبرع الآن

سؤال

رقم مرجعي: 653836 | الحديث الشريف | 4 نوفمبر، 2021

مفهوم حديث ((الأئمة من قريش))

السلام عليكم، بحاجة لتوضيح لصحة أحاديث حصر الإمامة في قُريش، "الأئمة من قريش." "الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم." …. وما صحة حصر الإمامة في سلالة واحدة وهي قُريش حسب ما ذكر أعلاه، وإن كان صحيحًا فما الحكمة من ذلك. خاصة في ظل ما ورد في الحديث الشريف بصحيح مسلم: وإن أُمِّر عليكم عبدٌ مجدعٌ يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا والسلام عليكم.

إجابة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلامعلى سيد المرسلين وبعد:

فإنّ مفهوم الإمامة التي يدل عليها حديث «الأئمة من قريش» واضح. فسياق الحديث، ورواياته الكثيرة التي جاءت بصيغٍ مثل «الأمراء من قريش» و «الخلافة في قريش» و «الملك في قريش» كلّ ذلك يجعلنا نقطع بأنّ الإمامة المقصودة في الحديث هي الإمامة العظمى؛ أي الخلافة. وهذا ما فهمه الصحابة من الحديث؛ لذلك احتج به أبو بكر وعمر يوم السقيفة على الأنصار، في قضية خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبله الجميع ولم يعترض أحد.

ولكن اقتصار الإمامة على هذا المفهوم – وعلى الرغم من وضوحه – لم يبقَ على حاله، بل طرأ عليه تحولٌ ملموس فيما بعد الإمام الشافعي، إذ جاء تلاميذه ومحبّوه ليقولوا بأن الإمامة هنا ليست فقط الإمامة العظمى، بل ويدخل فيها إمامة العلم والدين. وعلى هذا المعنى يكون في هذا الحديث بيانٌ لفضيلة الإمام الشافعي. فالحديث حُجة في مزيّة قريش على غيرهم، والشافعي قرشي.

هكذا رأى بعض أصحاب الشافعي. وتعقّب القاضي عياض هذا القول بقوله: "ولا حُجة فيه لأنّ المراد بالأئمة في هذه الأحاديث الخلفاء". كما تعقبه القرطبي بأنه دليل على التعصب؛ بل إنه قال عمن قال به: "صحبته غفلة قارنها من صميم التقليد طيشة".

وإنْ كنا لا نؤيد تفسير الحديث بهذا الشكل؛ لِمَا أشرنا من وضوح دلالته على الإمامة العظمى؛ إلا أنّ هذا التفسير يشير إلى تحوّل واضح في مفهوم الحديث، جاء في فترة زمنية تنافس فيها تلاميذ الفقهاء على إبراز إمامة مشايخهم، وأصالتهم، وفضلهم على غيرهم. مما يدل على أن مرور الزمن، والبيئة المحيطة، والظروف السائدة، لها علاقة واضحة بفهم الحديث.

وثمة تحوّلٌ آخر في مفهوم التبعية لقريش؛ فيرى النووي وابن حجر وغيرهما من السابقين، أنّ التبعية لقريش كانت في الجاهلية، ثم استمرت في الإسلام. ويرى النووي أنّ هذه التبعية باقية إلى آخر الدنيا. وذكر بأنها كذلك منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الآن؛ أي حتى عصره الذي يعيش فيه. وبالفعل كانت الخلافة في قريش حتى عصر النووي. ولأنها كانت كذلك؛ أي أنها استمرت في قريش حتى وقت حياته، فقد ظن - رحمه الله – أنّ الأمر سيبقى على هذا الحال، وأن مجد قريش دائم لا يزول. ولكن هل بقي مجد قريش ؟ وهل بقيت الخلافة فيهم ؟

إنّ زوال الخلافة عن قريش مع أنّ الحديث ينصّ على بقائها "ما بقي من الناس اثنان" دفع إلى وجود تطورٍ آخرَ في مفهوم الحديث، ألا وهو التنبه إلى القيد الموجود في بعض روايات الحديث، وهو: «ما إنْ استُرْحِموا رَحموا، وإنْ عاهدوا وَفَّوْا، وإنْ حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» وفي رواية أخرى: «إنّ هذا الأمر في قريش ... ما أقاموا الدين». إذاً فبقاء الإمارة فيهم مقيد بإقامة الدين، وبطاعة الله في الرعية، ووفاء العهد معهم. فلما زالت هذه من قريش، زالت الإمامة عنهم.

وإذا ما انتقلنا إلى الصيغة التي وردت بها الأحاديث، وجدنا تحوّلاً آخر في مفهومها. فهل وردت هذه الأحاديث بصيغة الأمر أم الخبر ؟ وماذا نفهم من ذلك ؟

التفت المناوي (ت1031هـ) – رحمه الله – إلى قضية مهمة في فهم هذه الأحاديث؛ ذلك أنها وردت بصيغة الخبر، وصيغة الخبر تختلف عن صيغة الأمر، باعتبارها لا تدل على حُكْم. وفسّره المناوي بالحديث الآخر «كما تكونوا يُولّى عليكم». فهي أخبار عن حال قريش وما يحدث لها في المستقبل.

وأما الآن فسننظر في قضية الحديث الرئيسية؛ لملاحظة جوانب التحوّل فيها، وهي:  شرط القرشية في الإمام.

بالنظر في أقوال العلماء في هذا الشرط، نلمس تحوّلاً في طبيعة فهمهم له، إذْ يتبين من الأقوال التي أوردناها سابقاً، أنّ جمهور العلماء السابقين يقولون بهذا الشرط، بينما ذهب القليلون إلى عدم اشترطه، كما سنوضح فيما بعد. أما المُحْدَثين، فلا نجد الآن – تقريباً – من العلماء من يقول بشرط القرشية. فما الذي حصل ؟ وما هي طبيعة التحوّل الذي طرأ على مفهوم الحديث ؟

سنحاول فيما يلي أنْ نتناول هذه القضية بشيء من البسط والتوضيح:

ذهب جمهور أهل السنة من السابقين، ومعهم الشيعة، إلى القول بشرط القرشية. بينما خالفهم في ذلك الخوارج وبعض المعتزلة.

 فلماذا خالف الخوارج ؟

لو نظرنا في طبيعة الأوضاع السياسية والطائفية السائدة في ذلك الحين، لوجدنا أن أهل السنة كانوا أمام نص واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم  ؛ أن الإمامة في قريش، وكان جميع الأئمة في حينها قرشيين، وكانت قريش صاحبة المجد والعظمة. ولكن كيف للخوارج أنْ يقبلوا بذلك، وقد خرجوا على الإمام علي وهو القرشيّ الهاشميّ، لا بد إذاً لهذا الخروج من تأويلٍ يرفضون بناء عليه شرط القرشية، حتى قال بعضهم: الأَوْلى أن لا يكون الإمام قرشياً؛ لأنه أقلّ عشيرة؛ مما يسهل الخروج عليه في حال عصيانه. ولقد كانت السيادة والغلبة حينها لقريش، والناس تبعٌ لها، ولكن كيف للخوارج أنْ يتبعوا علياً وقد خرجوا عليه.

من هنا نفهم لماذا رفض الخوارج هذا الشرط، ولم يعترفوا به. لقد كان ذلك تأثراً بالظروف السياسية السائدة آنذاك. وهو في رأيي ما جعل أهل السنة يصرون على التمسك بهذا الشرط، وقوفاً في وجه الخوارج، وحتى لا يُتهم من يرفض هذا الشرط بالوقوف في صفهم أو مساندتهم في رأيهم.

ومع اهتزاز مكانة قريش بين العرب، وجدنا أنّ مفهوم الحديث بدأ يتغير في نظر شرّاحه. فها هو الجويني (ت478هـ) - رحمه الله – بدأ يطرح تساؤلاته حول هذا الحديث، مبيناً أنه لا يمكن القبول به دليلاً على شرط القرشية. ورأى أنه إذا وُجد إمام أكثر أهلية لهذا المنصب – وهو ليس قرشياً – فهو أحق به من القرشي. ونلحظ هنا أن الجويني كان صاحب نظرة مقصدية، فهو لم يقف على حرفية النص، ولكنه نظر إلى مقصده. فهو يرى أن الذي يستحق الخلافة، هو من كان أهلاً لها، بغض النظر عن نَسَبِه، فإنْ وُجد قرشيّ أهلاً للمنصب فبه ونعمت، وإنْ لم يوجد، فصاحب الأهلية أوْلى منه، وإنْ لم يكن قرشياً.

وبالرغم من نظرة الجويني هذه، وتصريحه بعدم عقلانية هذا الشرط، إلا أننا نجده متحيراً متردداً - في غير موقع - عند الكلام عن هذا الشرط، بل نجد أنه بنفسه يصرّح بهذا التردد في كتابه ( الإرشاد ) ، حين يقول: "ومن شرائط الإمامة عند أصحابنا، أنْ يكون الإمام قرشياً، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الأئمة من قريش» وقال: «قدِّموا قريشاً ولا تَقدَّموها» وهذا مما يختلف فيه بعض الناس. وللاحتمال فيه عندي مجال. والله أعلم بالصواب".

وكان معظم العلماء في عهد الجويني متمسكين بهذا الشرط، واستمر الأمر على ذلك مدة ثلاثة قرون تقريباً، حتى جاء العلامة ابن خلدون، الذي يُشكِّل قولُه تحوّلاً حقيقياً في فهم هذا الحديث. وإنْ كان بعض الدارسين قد نسب إلى الباقلاني أنه خرج على هذا الشرط، إلا أنَّ ما أثبتناه من قول الباقلاني نفسه في كتاب التمهيد، يدلّ على أنه سار مع القائلين باشتراط القرشية.

لقد التفت ابن خلدون – رحمه الله – إلى قضية غابت عن الكثيرين، ألا وهي علة النص، أو العلة التي لأجلها جاء الحُكْم. ذلك أنّ الإمارة تحتاج إلى قوة وسيادة لتنفيذ أمر الله، وقريش كانت لديها الحَظوة والمكانة بين العرب، سواءً أكان ذلك في الجاهلية أم في صدر الإسلام. فناسب أنْ تكون الإمارة فيهم. لذلك اعترض أبو بكر وعمر على الأنصار الذين قالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقالا لهم: "إنّ العرب لا تدين إلا لهذا الحيّ من قريش". ولكن الظروف اختلفت، وسيادة قريش ذهبت، ونجمها أفَل، وبذلك يذهب هذا الشرط مع ذهاب قريش، لأنّ الحُكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فإذا وُجدت العلة وُجد الحُكم، وإذا زالت العلة زال الحُكم.

ويُعدّ قول ابن خلدون فتحاً جديداً في هذا الميدان، وهو ما ذهب إليه وتبناه معظم العلماء المُحْدَثين، حتى أننا لا نكاد نجد قولاً لأحدهم يخرج عما قاله ابن خلدون، وهو القول الذي تميل إليه النفس وتأنَسُ به.

ويمكننا القول بناء على ذلك، بأنّ شرط القرشية هو شرط أفضلية وكمال، لا شرط صحة. بمعنى: إذا اجتمع قرشيّ وغير قرشيّ وفيهما الشروط نفسها، يُقدَّم القرشي. وإنْ تميّز الآخر بصفاته على القرشي يُقدَّم، ولا عبرة بقرشية الأوّل. ولا نكون بذلك قد خالفنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما فهمناه ضمن الإطار الذي قيل فيه.

ثم إن كثيراً من روايات الحديث جاءت مقيّدة، كما هو الحال في رواية البخاري التي ذكرناها سابقاً، والتي قيّدت الأمر بإقامة الدين، مما يدل على أنّ الإمامة ليست في قريش بشكل مطلق متحرر من كل قيد، وإنما هي لها ما دامت مستقيمة على أمر الله فإن عصت سقط حقها في الإمامة. ولا نعني بسقوط حقها أنْ لا إمام من قريش، و إنما نعني أنْ لا تكون الإمامة محصورة فيهم. وعلى هذا يمكن فهم الروايات بناءً على المطلق والمقيد، فما نَصّ منها على أن الإمامة في قريش مطلق، وما نص على أنها في قريش ما أطاعوا الله مقيد، وعلى هذا يُحمل المطلق على المقيد.

ومن هنا فإنه لا يجوز أنْ يخرج علينا رجل فاسق عاصٍ لله تعالى، ويدّعي القرشية ثم يطلب بيعة الناس أو حق الإمامة. فإن هذا يتنافى وتعاليم هذا الدين وأصوله الراسخة، فليس بمستحقٍ لهذا المنصب إلا من هو أهلٌ له. فحينما طلب أبو ذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يوَلِّيه، رفض ذلك؛ لأنه ليس به القوة التي تؤهله لهذا المنصب، وردّ عليه: «إنك ضعيف وإنها أمانة». وإذا أمعنا النظر في نصوص القرآن والسنة، وجدنا أن منزلة الإنسان من الله سبحانه وتعالى، ليست بالأهل والنسب «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه». و إنما هي بالعمل والتقوى ﴿إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾. وعلى هذا نفهم فضل قريشٍ على غيرها في مجال الإمامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يميز قريشاً إلا لأنها كانت قادرة على القيام بتبعات هذا المنصب وتحمّل أعباء هذه الإمامة، ولمّا أصبحت غير قادرة وتغيرت الظروف، واختلفت موازين القوى، لم يعد هناك مجال للقول بهذا الشرط.

وفي النهاية نود الإحالة على دراسة محكمة بعنوان (دراسة تحليلية نقدية في شروح العلماء لحديث: الأئمة من قريش) للدكتور عودة عبد الله، منشورة في مجلة الشريعة والقانون, جامعة الإمارات العربية المتحدة, العدد 28، عام 2005.

لديك سؤال؟

أرسل سؤالك الآن

فتاوى مشابهة